U3F1ZWV6ZTQyNDQyNjI0MjQwMzkzX0ZyZWUyNjc3NjQ3NzQyMTE0NQ==

العقلانية العلمية

تقديم حول العقلانية العلمية:

يحيلنا الحديث عن العقلانية العلمية كاتجاه فلسفي الى التأكيد على أولوية العقل في إنتاج المعرفة اليقينية، دون حاجته إلى التجربة الحسية التي غالبا ما تكون وهمية زائفة. فمفهوم العقلانية العلمية، يدفعنا بالضرورة إلى التمييز بين تصورين لهذه العقلانية، أحدهما يقوم على أسس عقلانية كلاسيكية تتميز بالثبات والانغلاق، والآخر يقوم على أسس عقلانية معاصرة قوامها الانفتاح والتغير. أي الحديث عن العلاقة بين ما هو عقلي ويعتمد على التماسك الداخلي للعقل، وما هو واقعي ويعتمد على الملاحظة الدقيقة والتجارب في بناء النظريات العلمية، وبالتالي فهو حوار بين العقل والتجربة.
فالعقل هو مصدر المعرفة ومعيار الحقيقة، إذا فإن كان التجريبيون ينطلقون من التجربة أو الملاحظة والتجريب كأساس للمعرفة، فالعقلانيون ينطلقون من العقل بكونه مصدرا للمعرفة ومعيارا للحقيقة، بمعنى أنه من أجل اعتبار أي معرفة، معرفة علمية لابد من استنادها الى البنائ العقلي باعتباره بناءا منضما يعتمد على براهين وأذلة. فالعقل ليس مجرد مصدر للمعرفة بل هو كذلك معيار للحقيقة. ويرى العقلانيون ان العقل له قدرة على فهم الظواهر الطبيعية، بمعنى أنه لا تعتبر كل الظواهر الكونية قابلة للتجريب، بحيث أنه يمكن بناء فهم الظواهر الطبيعية عن طريق التجربة أو التجريب، أو عن طريق الملاحظة.
أما عند اعتبار العقل هو وحده مصدر للمعرفة وهو معيار لها، نكون هنا في إطار نزعة عقلانية كلاسيكية. فكما راينا فالعلم ينقسم الى لحظتين، لحظة العلم الكلاسيكي ولحظة العلم المعاصر. هاتين اللحظتين يقدمان عدة توجهات لا بالنسلة للعقلانين (عقلانين تجريبين وعقلانين معاصرين) أو التجريبين  (تجريبين كلسيكين وتجريبين معاصرين).
وفي مقابل العقلانية الكلاسيكية نجد العقلانية المعاصرة، و الفرق بينهما هو أن العقلانية المعاصرة لا تؤمن بالعقل المنغلق، يعني أن العقل المكتفي بذاته، ولا يستند للمعطيات التجريبية. وبالتالي يمكن القول أن العقلانية المعاصرة هي عقلانية مطبقة، يعني العقل مطبق على مادة. إذا فالنموذج العلمي الذي يمكن تجسيده في هذه العقلانية المعاصرة هي الرياضيات المطبقة Math appliqué، بحيث أن الرياضيات لم يعد فكرا مجرد، يشتغل فقط في كل ما هو إفتراضي بل تعداه الى المجالات التطبيقية، مثل Math Informatique. إذا فالعقل أصبح مطبق على مادة.

إشكالية المحور:

لطرح اشكال محور العقلانية العلمية ننطلق من السؤال التالي :
على اي اساس تقوم العقلانية العلمية؟ هل تقوم العقلانية العلمية على العقل أم على التجربة؟ أم عليهما معا؟
ومن أجل بناء عقلانية علمية هل يجب الاستناد على العقل فقط، والئيمان بأنه كاف لبناء معرفة علمية؟ أم وجب الانطلاق من التجربة لبناء هذه العقلانية؟ أم أن بناء المعرفة العلمية يقتضي التعاون ما بين العقل والتجربة؟

المواقف والمقاربات:

ألبرت اينشتاين:

المبدأ المبدع والخلاق للعلم يوجد في العقل الرياضي
بالحديث على الاساس العقلاني، فأهم موقف يمكن استثماره لبناء تصوري هو موقف ألبرت اينشتاين، والذي يعتبر أن التجربة لا تشكل بمعناها الكلاسيكي اساس المعرفة العلمية وتقدمها، اذا فهو ضد الفكرة على ان التجربة هي اساس او هي منطلق المعرفة. فالمعرفة العلمية المعاصرة اصبحت تقوم على مقدمات العمل الرياضي القائم على الستنباط والاستنتاج والتماسك المنطقي الرياضي، بحيث تكون نتائج هذا النسق الرياضي متطابقة مع التجربة. ويمكن أن نفهم ذلك من خلال المعرفة العلمية المعاصرة.

غستون باشلار:

تنبني المعرفة العلمية على الحوار ما بين العقل و التجربة
ينطلق باشلر من المبدأ الفزيائي المعاصر لتفسير العقلانية العلمية، بحيث يعتبر ان هناك تعاون ما بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. فالمعرفة العلمية حسب وجهة نظر باشلر هي نتاج للحوار بين العقل من جهة و التجربة من جهة أخرى. فلا النزعة العقلانية الكلاسيكية المنغلقة، ولا النزعة الاختيارية السطحية والساذجة، بامكانهما تحقيق المعرفة العلمية أو الاسهام في التقدم العلمي. ذلك أن الواقع العلمي عند باشلار ليس واقعا حسيا معطى بشكل مسبق، وإنما هو واقع يقوم العقل ببنائه بطريقة رياضية، كما أنه ليس واقعا مستقرا وثابتا وإنما هو واقع متغير ومتحول. وحسب قولة باشلر الشهيرة والتي استمدها من امانويل كانط، وهي أنه “لا وجود لعقلانية جوفاء ولا وجود لتجربة عمياء“، بمعنى أن العقل وحده بدون معطيات حسية يكون اجوف، وكذلك تجارب بدون عقل تكون عمياء، اي ان العقل هو الذي يوجه التجربة.
خلاصة
يمكننا استخلاص تصورين: تصور يبني العقلانية العلمية على العقل، وتصور آخر يبني العقلانية العلمية على التجربة. التصور الثالث الذي يمكن اضافته هو تصور نقدي لغاستون باشلر والذي يجمع بين التصورين السابقين.

خاتمة:

ان النزعة العقلانية تتحدد من خلال إعطاء الأولوية للعقل وأحكامه، باعتباره عقلا كونيا واحدا. غير أن تطور العلوم، سواء منها العلوم الدقيقة، أو العلوم الانسانية، أو العلوم المعرفية، سيفتح المجال أمام مقاربة جديدة للعقل ودوره، وسيقود الى تأسيس عقلانية جديدة، معاصرة، تقدم نفسها كبديل “للعقلانية الكلاسيكية”، تراجع أسسها ومنطلقاتها، وتركز بالتحديد على دور العقل وميكانيزمات اشتغاله في انتاج المعرفة العلمية، وهي ما نسميه بالعقلانية العلمية.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق